لاتزال الزراعات التعاقدية خجولة ضمن حدودها الدنيا، كالتبغ، والشوندر السكري، والمحصولين الرئيسيين : القمح والقطن، حيث تشرف الدولة على استلام هذه المحاصيل، إلا أن صدور المرسوم الخاص باستثمار محصول التبغ أعطى مساحة أوسع للتشجيع على زراعة المحصول.
ومن هذه المقدمة يمكن التساؤل عن إمكانية التوسع في الزراعات التعاقدية لتكون أشمل، والسماح للقطاع الخاص الاستثمار بها؟.
وزير الصناعة الدكتور عبد القادر جوخدار قال في حديث ل”الثورة”: أنه ضمن مرسوم إحداث الشركات الجديدة “النسيجية والغذائية والتبغ “،هنالك بند يتعلق بتنظيم الزراعات التعاقدية للأقطان، و الزراعات المتعلقة بالصناعات الغذائية مثل الكونسروة والتبغ، وذلك من خلال التعاون مع وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي والاتحاد العام للفلاحين، مبيناً أنه بموجب مراسيم الإحداث نظمت عملية الزراعات التعاقدية، بما يخص احتياجات هذه الشركات من المنتجات الزراعية، وأصبح ذلك ملزماً للصناعة والزراعة.
وأوضح الدكتور الجوخدار أنه جاء في قرار مجلس الوزراء بما يخص التعليمات التنفيذية لمرسوم السماح للقطاع الخاص الاستثمار في التبغ، أن يتم تأمين حاجة المنشآت الصناعية الخاصة من التبوغ من المؤسسة أو المزارعين أو الفلاحين مباشرة، وذلك من خلال الزراعات التعاقدية، مبيناً أنه بذلك يمكن الحديث عن تنظيم هذه الزراعات بموجب المراسيم الصادرة.
وحول ذات الموضوع أوضح الصناعي والباحث عصام تيزيني أن الزراعات التعاقدية يتم طرحها كمشروع قانون منذ سنوات، وعلى المستوى الحكومي و الوزارات وخصوصاً الزراعة والصناعة، وفي آخر اجتماع منذ عامين تم التوصل لأن يكون هناك تعاقد على الزراعات، بهدف ضمان المواد الأولية للمصانع، وبالتالي تنشيط المصانع والتشجيع على الصناعات الزراعية.
الصناعي تيزيني، لفت على أن مرسوم السماح للقطاع الخاص بالاستثمار وصناعة التبغ جاء في تعليماته التنفيذية التي صدرت عن الحكومة، و أهم بند هو السماح للقطاع الخاص الاستثمار وتصنيع التبغ والحصول عليه من المزارعين، وفق الزراعات التعاقدية، علماً أن الحكومة حتى الآن لم تصدر أي تشريع ينظم عملية الزراعات التعاقدية معتبراً أن هذا الأمر مسؤولية وزارتي الصناعة والزراعة معا للتعاون لوضع بنود للعمل المشترك وماهية الصناعات الزراعية التي تستوجب إجراء عقود مسبقة ما بين صاحب المصنع، مبيناً أن هناك حاجة لتعميم تجربة التبغ والشوندر السكري، بحيث يصبح القطاع الخاص مشاركا في هذه الزراعات التعاقدية، وإن النجاح لن يكون إلا بصدور تشريع ينظم عملية تأمين المادة الأولية من خلال عقود ما بين المزارعين وأصحاب المصانع.
شركات مساهمة
من جهته عضو جمعية العلوم الاقتصادية محمد بكر بين أن الزراعة التعاقدية هي علاقة بين ثلاثة أطراف، المنتج ( المزارع )، و المشتري ( تاجر أو صناعي)، و الجهة الوسيطة أو الضامنة ( كانت سابقاً جهة حكومية)، و لكن الجهات الحكومية لم تنجح بإدارة هذا النشاط بكفاءة و نزاهة بسبب الروتين و البيروقراطية، و الفساد و ضعف خبرات الإدارات التي كانت تكلف دون مراعاة معايير الجودة و الكفاءة المهنية والاختصاص.
وبين بكر أن المطلوب جهة وسيطة ضامنة للطرفين الأول المزارع، وتقدم له كل مستلزماته ( بذار ، آليات زراعية ، قروض ، استشارات و خبراء زراعة ، مبيدات ، سماد وغيرها)، مقابل عقود موثقة و ضمانات لشراء كامل المحصول بأسعار منطقية دون غبن و ضرر، و للطرف الثاني (المصنع) تلتزم معه ببيعه المنتج حسب الأسعار العالمية، و توفير المنتج في الوقت والجودة و السعر المناسب، منوهاً أنه بهذه الطريقة يتحقق الربح للأطراف الثلاثة، مما يجعلهم يستمرون بالتعاقد بما يحقق انتعاش القطاع الزراعي، و تحقيق الأمن الغذائي، ودعم الخزينة العامة للدولة.
ويعتبر بكر أن ما يتم على أرض الواقع هو شراء إلزامي بأسعار جعلت الفلاح، إما أن يبيع منتجه تهريباً أو يترك الزراعة لعدم وجود جدوى اقتصادية من العمل الزراعي.
ويرى بكر أن سبب التأخير في عدم انطلاق الزراعة التعاقدية هي الظروف الحالية للاقتصاد الوطني الذي يعاني من صعوبات اقتصادية و اجتماعية مثل التضخم ، الكساد ، الفساد ، السمسرة ، و سيطرة فئات متطفلة على الصناعة و التجارة، أدت إلى تراجع الاقتصاد الوطني و كان الهم هو الربح الفاحش بأي شكل من الأشكال.
و – بحسب الخبير الاقتصادي- لكي نتمكن من إعادة حركة الإنتاج الزراعي و مساهمته الفعالة في رفد الخزينة العامة للدولة، فلا بد من وجود شركات مساهمة يكون للحكومة حصة لا تتجاوز 25%، و تكون من هيئة علمية بحثية مثل كلية الزراعة أو الأبحاث الزراعية، و تكون 75% لمستثمرين توضع شروط لإدارة الشركة من ذوي الاختصاص، ومن الممكن أن تقوم هذه الشركة بشراء المنتجات من المصنعين، وتصدير الفائض من المنتجات الزراعية و الصناعية وفق ضوابط محددة .
بدوره الخبير والباحث الاقتصادي الدكتور فادي عياش أوضح أن الجميع متفقون على أن الزراعة والصناعات الزراعية هي حامل التنمية وسبيل التعافي المبكر لاقتصادنا، ولكن يعاني القطاع الزراعي عموماً من معوقات كثيرة منها ما هو عضوي وتراكمي، ومنها ما كان من مفرزات وآثار الحرب الظالمة والعقوبات والحصار.
ولكن – بحسب عياش- تثبت الإحصاءات الرسمية التراجع الكبير للقطاعات الإنتاجية عموماً والزراعية خصوصاً في مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي حتى قبل الأزمة، حيث تراجعت مساهمة الإنتاج الزراعي من قرابة 30% إلى حدود 17% قبل الأزمة لصالح القطاعات الخدمية والريعية.
وبين أنه يمكن تحديد أهم مشكلات الإنتاج الزراعي في عاملين اثنين رئيسين، وينطوي عليهما الكثير من العوامل الأخرى وهي التمويل، والمخاطرة، وعليه فإن العمل الزراعي يحتاج لرساميل مؤثرة سواء في بداية الزراعة، أو عند الجني، وهذا يشكل طلبا كبيرا على السيولة، والتي يتعذر على غالبية المزارعين تأمينها بكلف معقولة، ويتم التعامل مع هذه العقبة الكبيرة من خلال قروض المصرف الزراعي وآليات الدعم الحكومي القائمة على دعم مدخلات الإنتاج الزراعي، إلا أن نتائج هذه التدخلات غير مرضية على الإطلاق، كما يوضحها التراجع الكبير الكمي والنوعي في مجمل النشاط الزراعي.
أما عامل المخاطرة فهو يرتبط بالدرجة الأولى في الطبيعة، حيث يتأثر الإنتاج الزراعي بشكل مباشر وكبير بالمتغيرات المناخية، ولا سيما فترات الجفاف المتلاحقة والتطرف المناخي الذي لاحظناه في السنوات القليلة الماضية نتيجة التغير البيئي العالمي، وبدوره يؤدي إلى إخلال كبير بمقومات العرض والطلب، وبالتالي تأثيره على الأسعار وغالباً يؤدي إلى خسائر كبيرة.
ويتطرق الخبير الاقتصادي إلى غياب التخطيط المؤثر على توازنات المواسم واستمراريتها وتباينها بين وفرة وندرة، وهذا لا يخدم تنافسية الإنتاج الزراعي سواء الخام أم المصنع خاصة التصدير.
واقترح عياش حلولا تتعلق بإمكانية تأمين التمويل للزراعات الصغيرة، وقد يكون كافيا عبر المصارف الزراعية أو عبر تجار سوق الهال، ولكن للحيازات الكبيرة والزراعات التكثيفية، فالحل الأمثل هو إنشاء شركات مساهمة زراعية وقد صدر مؤخراً تشريع خاص للتشجيع على ذلك.
و وجد أنه من الأهمية بمكان التحول من دعم المدخلات إلى دعم المخرجات ضمن سلسلة متكاملة وصولاً إلى التصدير الزراعي، فهذا التحول يضمن استقرار الإنتاج وتخفيض تكاليفه ووصول الدعم إلى مستحقيه المنتجين الفعليين وتحقيق الاستقرار الكمي والنوعي للإنتاج وتقليل الهدر وضبط الفساد، وبالمقابل تخفيض المخاطرة الإجمالية.
أما عامل المخاطرة- وفقاً للدكتور عياش- فإن جهود صندوق الكوارث وتعويض خسائر المزارعين المتعلقة بالكوارث الطبيعية جيدة، لكنها غير كافية وتحتاج لتطوير في معاييرها، وقيم تعويضاتها لتكون منصفة، وهذا يشكل عبئا مباشرا على الخزينة.
وقال: إن التخطيط السليم والمتوازن والتدخلي سيكون عاملا مؤثرا للغاية، وأحد أهم أدواته وأنجحها،هو تطبيق مفهوم الزراعات التعاقدية، أي أن يتم زراعة ما يجب تصنيعه..وزراعة ما يجب تصديره، وليس الاعتماد على مفهوم الفائض، فلا يمكن قيام صناعة تحويلية تنافسية بالاعتماد على مفهوم الفائض الزراعي، ولا يمكن تحقيق التنافسية والاستدامة في الأسواق الخارجية اعتماداً على تصدير الفائض من الإنتاج الزراعي.
كما يشير إلى جملة من العوامل والمراحل ومن ضمنها، تطوير البحوث الزراعية والبنى التحتية والتقنيات المرتبطة بالإنتاج الزراعي، مما يشكل رافعة تنموية هامة على مستوى الاقتصاد الكلي، ويسهم في تسريع وتيرة التعافي الاقتصادي في المرحلة الراهنة.